يتم التحميل...

الجزع، ماهيته، منشؤه وعلاجه

دراسات أخلاقية::الأخلاق المذمومة

وعن الصّادق عليه السلام: "تَفْسِيرُ الْجَزَعِ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَتَحَزُّنُ الشَّخْصِ وَتَغَيُّرُ السُّكُونِ وَتَغْيِيرُ الْحَالِ، وَكُلُّ نَازِلَةٍ خَلَتْ أَوَائِلُهَا عَنِ الْإِخْبَاتِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَصَاحِبُهَا جَزُوعٌ غَيْرُ صَابِرٍ،

عدد الزوار: 115

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا1.

وعن الصّادق عليه السلام: "تَفْسِيرُ الْجَزَعِ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَتَحَزُّنُ الشَّخْصِ وَتَغَيُّرُ السُّكُونِ وَتَغْيِيرُ الْحَالِ، وَكُلُّ نَازِلَةٍ خَلَتْ أَوَائِلُهَا عَنِ الْإِخْبَاتِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَصَاحِبُهَا جَزُوعٌ غَيْرُ صَابِرٍ، وَالصَّبْرُ مَا أَوَّلُهُ مُرٌّ وَآخِرُهُ حُلْوٌ لِقَوْمٍ، وَلِقَوْمٍ مُرٌّ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ، فَمَنْ دَخَلَهُ مِنْ أَوَاخِرِهِ فَقَدْ دَخَلَ، وَمَنْ دَخَلَهُ مِنْ أَوَائِلِهِ فَقَدْ خَرَجَ، وَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ الصَّبْرِ لَا يَصْبِرُ عَمَّا مِنْهُ الصَّبْرُ، قَالَ الله عَزَّ مِنْ قَائِلٍ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عليه السلام: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا2 فَمَنْ صَبَرَ كُرْهاً وَلَمْ يَشْكُ إِلَى الْخَلْقِ وَلَمْ يَجْزَعْ بِهَتْكِ سِتْرِهِ، فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ، وَنَصِيبُهُ مَا قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ3، أَيْ بِالْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ"4.

حفلت الأحاديث والرّوايات بذكر الجّزع وعدّته من أضداد الصّبر الّذي هو فضيلة عظيمة. فالجزع رذيلة نفسيّة، وإن كان له بعض موارد الحسن كما سيظهر.

إنّ حياة الإنسان في الدّنياـ وفي ظلّ غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ مليئة بالصّعاب والمصائب، وذلك لأنّ النّاس تحت حكومات الطّواغيت لن تصلح أمورهم. وما داموا كذلك، فإنّ الكثير من الأضرار سيصيبهم نتيجة تخريب الأرض. وها هو أمير المؤمنينعليه السلام يشرح هذه القضيّة ويبيّن سببها الواقعيّ في عهده الشّريف لمالك الأشتر حين ولّاه مصرا: "وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، إِنَّمَا يعْوِزُ أَهْلُهَا لإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ"5، وهو معنى قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ6. فالدّنيا في غيبة الإمام دارٌ بالبلاء محفوفة، وبظهوره المبارك ستشرق بنور ربّها وتتبدّل غير الأرض.

وبسبب هذا الطّغيان وما ينجم عنه من فساد وتخريب، يقع النّاس في المضائق والشّدائد، وتنزل بهم المصائب. فمن لم يستعدّ لمثل هذه البلايا يسقط وينهار، ويفقد القدرة على المقاومة من أجل السّير نحو ذلك العهد الميمون. وعندها ستزداد المصائب وتكثر، بل وستعظم وتكبر. فعن الإمام الصّادق عليه السلام: "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ مُبْتَلًى بِبَلَاءٍ مُنْتَظِرٌ بِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلِيَّةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا عَافَاهُ الله مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَنْتَظِرُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ وَجَزِعَ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُنْتَظِرُ أَبَداً حَتَّى يُحْسِنَ صَبْرَهُ وَعَزَاءَهُ"7.

فالصّبر، الذي ينشأ من قوّة إلهيّة تنزل على قلب المؤمن، يمنح القدرة على الصّمود والمواجهة، وبهذه المقاومة التي تتّطلع إلى عهد إمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف تقلّ المصائب وتهون.

ما هي الشّخصيّة الجزوعة؟
المصاعب والمصائب درجات، ومع كلّ درجة منها نحتاج إلى درجة تقابلها من حيث قوّة التحمّل والصّبر. ولكن، هل يوجد مصيبة في الحياة الدّنيا لا تقابلها قوّة أو يحتملها صبر؟ وبذلك يكون الجّزع عندها مقبولًا!

إنّ ما يظهر من بعض الأحاديث المؤيّدة بالوجدان أنّ مصائب أهل البيت عليهم السلام ـ أي مصائب فقدانهم وفقدان هدايتهم الظاهرة في هذا العالم ـ لا يمكن لأيّة نفس أن تتحمّلها. وكيف تتحمّل النّفس فقدان أمرٍ يُعدّ أساس قوّتها؟! فعن الإمام الصّادق عليه السلام: "إِنَّ الْبُكَاءَ وَالْجَزَعَ مَكْرُوهٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ مَا جَزِعَ، مَا خَلَا الْبُكَاءَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام، فَإِنَّهُ فِيهِ مَأْجُورٌ"8.

وعَنْ مِسْمَعِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام فِي حَدِيثٍ: "أَمَا تَذْكُرُ مَا صُنِعَ بِهِ، يَعْنِي بِالْحُسَيْنِ عليه السلام، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَتَجْزَعُ؟ قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ، وَأَسْتَعْبِرُ بِذَلِكَ حَتَّى يَرَى أَهْلِي أَثَرَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَأَمْتَنِعُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَسْتَبِينَ ذَلِكَ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: رَحِمَ الله دَمْعَتَكَ، أَمَا إِنَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ مِنْ أَهْلِ الْجَزَعِ لَنَا وَالَّذِينَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا وَيحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، أَمَا إِنَّكَ سَتَرَى عِنْدَ مَوْتِكَ حُضُورَ آبَائِي لَكَ، وَوَصِيَّتَهُمْ مَلَكَ الْمَوْتِ بِكَ، وَمَا يَلْقَوْنَكَ بِهِ مِنَ الْبِشَارَةِ أَفْضَل"9.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة دُفِنَ: "إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلاَّ عَنْكَ، وَإِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلاَّ عَلَيْكَ، وَإِنَّ الْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ، وَإِنَّهُ قَبْلَكَ وَبَعْدَكَ لَجَلَلٌ"10.

ولعلّه إلى هذا الجزع أشار الإمام الصّادق عليه السلام: "إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَجْزَعُ مَا لَمْ تَنْزِلِ الْمُصِيبَةُ، وَإِذَا نَزَلَتْ صَبَرْنَا"11.

والجزع، إمّا أن يبقى في القلب كحالة من الاضّطراب، دون أن يظهر في الأعضاء والجوارح، وإمّا أن يظهر عليها أو يسري إليها، فيؤدّي إلى حالات سلبيّة كثيرة، (سنشير إليها لاحقًا).

فإذا استفحل الجزع وزاد عن الحدّ الّذي قد يُعفى عنه، يظهر في سلوك الإنسان بصورة الشّكوى العشوائيّة والانهيار العصبيّ والإحباط والكسل والفتور.

وكما نعلم، فإنّ تزلزل القلب غالبًا ما يؤدّي إلى تزلزل البدن وخروجه عن الاعتدال في القول والفعل والحركات. ولهذا، كان لا بدّ من معالجة هذه المشكلة واقتلاعها من جذورها بعد معرفة أسبابها.

ويقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فإنّ الإنسان غير الصّابر، قلبه مضطربٌ، وباطنه موحشٌ، ونفسه قلقةٌ ومهزوزة... والإنسان غير الصّابر، يشكو عند من هو أهل للشّكاية، ومن هو ليس أهل للشّكاية... وأمّا الفزع والجزع فمضافاً إلى أنّه عيبٌ وكاشفٌ عن الضّعف في النّفس، يجعل الإنسان مضطربًا، والإرادة ضعيفة والعقل موهوناً"12.

كيف يصبح الإنسان جزوعًا؟

1- الاستسلام للطّبيعة البشريّة
لأنّ الإنسان خُلق ضعيفًا، وخُلق من ضعف ــ كما تصرّح آيات القرآن الحكيم13 ــ فإنّ الأصل فيه هو الجزع. وقد عرّفت الآيات السّابقة هذا الإنسان بمثل هذه الخصلة، وذلك لأنّ الجزع ينشأ من ضعف النّفس، وعدم قدرتها على الثّبات، ولهذا فمن الطّبيعيّ أن يكون جزوعًا.

ويُعلم من هذا الأصل أنّ الإنسان، إذا لم يربِّ نفسه على التّحمّل، ولم يحصل على القوّة الحقيقيّة من أسبابها، بل من سببها الواقعيّ، فسوف يجزع وينهار في اللحظات الصّعبة.

ولا شكّ بأنّ أكثر النّاس ليسوا محرومين من القوّة بالكامل. فإنّ الله تعالى يمنحهم من القوّة ما يقيمون به معاشهم، ولكي يعرفوا بذلك ربّهم، فيبتغون عنده العزّة والقوّة اللامتناهية.

والمطلوب أن يعدّ كلّ واحد منّا من القوّة ما يتناسب أو يتفوّق على الصّعاب والبلاءات التي سيواجهها في الحياة. وحيث إنّنا في كثيرٍ من الحالات لا نعرف حجم المصيبة إلّا بعد نزولها، فالأفضل أن نكل الأمر إلى الله ونعتمد عليه، ونفوّض إليه جميع أمورنا، ونطلب منه المدد والعون دومًا، ولا نرى أنفسنا أهلًا لتلك المواجهة، فلعلّ الله تعالى بهذا يجبر نقصاننا.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ الرجل الرّوحي الحافظ لسلامة فطرته الإلهيّة الأصلية يصبرُ على كلّ حالٍ، ولا يفقد السيطرة على نفسه، فتتغلّب قوةُ روحه على ما تطلبه طبيعته، ولا ينهار في الحوادث، ولا يهتزّ لفقدان الدّنيا والطّموحات النّفسيّة، لأنّه متحررٌ من حبّ الدنيا والنّفس، وهذا الحبّ هو منشأ كلّ انحراف وخطيئة"14.

2- احتجاب الفطرة
فإهمال تقوية النّفس يؤدّي بصورة تلقائيّة إلى الجزع. فكيف إذا امتزج مع احتجاب الفطرة، وذلك لأنّ الفطرة الإنسانية الأصليّة ـ كما يقول الإمام الخميني: "مجبولة على حبّ الكمال والجمال وطلب الحقّ ورؤية الحقّ، فإنّ الإنسان (الفطريّ) لا يظهر الجزع ممّا يرد عليه من جانب الحقّ. وإن كان ما يرد بحسب الطّبيعة وعالمها مكروهًا، والفطرة تعدّ الجزع من واردات الحقّ عيبًا ولأنّ هذا الإنسان احتجب بالحجب النّفسيّة الطّبيعيّة وتلوثّت مرآة قلبه بصدأ رؤية النّفس والعجب، فإنّه يجزع مقابل الواردات، ويظهر الشكوى من فقدان الواردات الطّبيعيّة"15. وإنّما تحتجب الفطرة بسبب حبّ النّفس وشدّة التوجّه إليها وإلى حاجاتها. وهكذا، لن ترى الجمال الكامن في المصائب فتستغرق في ظلمة الشّرور والأعدام. وعن الإمام الصّادق عليه السلام: "الصَّبْرُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِ الْعِبَادِ مِنَ النُّورِ وَالصَّفَاءِ، وَالْجَزَعُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ"16.

ويقول قدس سره: "إذا احتجبت الفطرة المجبولة على حبِّ الكمال المطلق بحجب الطّبيعة والنّفس، توهّمت أنّ الكمال في ما تطلبه الطّبيعة والنّفس، ولذلك فهي تجزع لفقدان المطلوبات الطّبيعيّة والنّفسيّة. فإذا خرجت من هذه الحال من الاحتجاب، لم تتأذَّ إلّا لفقدانها وِصال محبوبها الأصليّ، فلا تجزع إلّا على فراق حبيبها الحقيقيّ، فيكون الصّبر عن الله أصعب الأمور عليها، والله الهادي"17.

3- نقصان المعرفة
فما يعين الإنسان على تحمّل المكاره هو أن يرى فيها الخير، ويعلم أنّه بسببها سيبلغ المقامات عند الله، لقوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ18. وبسبب تكدّر الفطرة واحتجابها يمتنع صاحبها عن رؤية ما أخفى الله له في المكاره، وإنّما "حُفّت الجنّة بالمكاره"19، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "نفس الإنسان ما دامت تكره ما يَرِدُها من الحقّ تعالى، وما دام الإنسان يجد في باطنه جزعًا من تلك الواردات، فإنّ مقام معارفه وكمالاته ناقص"20.

ويقول قدس سره أيضًا: "اعلم أنّ الصبر يعتبر من مقامات المتوسّطين، لأنّ النّفس ما دامت تكره المصائب والبليّات، وتجزع منها، يكون مقام معرفته ناقصًا"21.

الشخصيّة الجزوعة هي شخصيّة بعمقها الفكري لا تفهم ولا تُدرك معنى الشرّ في حياتها، وهي أيضًا تُبتلى بقصر النّظر بشكلٍ ملحوظٍ، فترى ما يصيبها من شرّ أو ضرر كخسارة نهائيّة... الجزوع لا يرى الأفق البعيد أو الثّواب الإلهيّ للصّبر والثّبات، ولا يرى العاقبة الحسنة.

4- ضعف الإيمان
يقول الإمام قدس سره: "إنّ العبد الذي لا يتحمّل مصيبة واحدة نازلة عليه من الحقّ المتعال والحبيب المطلق، والذي إذا واجه بليّة واحدة رفع صوته بالشّكوى من وليّ نعمه أمام المخلوق، رغم نزول البركات عليه وتلقّيه آلاف آلاف النّعم، مثل هذا العبد أيّ إيمانٍ له؟ وأيّ تسليمٍ له أمام المقام القدسيّ للحقّ؟ فيصحّ أن يُقال أنّ: "من لا صبر له لا إيمان له"22.

ويقول في موضعٍ آخر: "لو كنت مؤمنًا بالحضرة الرّبوبيّة، ورأيت مجاري الأمور بيد قدرته الكاملة، ولا يكون لأحدٍ يدٌ في الحوادث والأمور، لما اشتكيت من حوادث الأيّام والبليّات أمام غير الحقّ تعالى، بل لاستقبلتها بكلّ حفاوة وتكريم، وشكرت نعم الحقّ سبحانه. فكلّ الاضطرابات النّفسيّة والشّكاوى اللسانيّة والحركات غير اللائقة وغير المعتادة للأعضاء، تشهد بأنّنا لسنا من ذوي الإيمان. فما دامت النّعمة موفورة، شكرنا ربّنا شكرًا ظاهريًّا لا لبّ له، بل يكون لأجل طمع الزّيادة، وحينما تواجهنا مصيبة واحدة أو يحلّ بنا ألمٌ ومرض، نشتكي من الحقّ المتعالي لدى النّاس ونغمز فيه، ونعترض عليه، ونبدي الشّكوى أمام كلّ من هو أهل، ومن هو ليس بأهل"23.

5- فتور القوّة الغضبيّة
إنّ الطّبيعة البشريّة إذا خرجت عن حدّ الاعتدال ـ سواء من جهة الإفراط أو التّفريط ـ فسوف تسوق صاحبها إلى الكثير ممّا لا تحمد عواقبه. ولا شكّ بأنّ القوّة الغضبيّة تُعدّ من قوى النّفس الطّبيعيّة. فلو فترت هذه القوّة واتّجهت نحو التّفريط فسوف يُبتلى الإنسان عندها بالجزع، ولهذا قال الإمام الخميني قدس سره: "إنّ فتور وخمود هذه القوّة (الغضبيّة) يولّد عيوبًا كبيرة، مثل الضّعف والتّهاون والكسل والطّمع والجزع"24، وذلك لأنّ الإنسان يستمدّ من هذه القوّة لأجل المقاومة والتجلّد، وبفتورها وخمودها يفقد تلك القدرة ويتّجه نحو الجزع.

الآثار المهلكة للجزع

1- بغض الحقّ تعالى
"وتتحوّل الشّكاوى والجزع والفزع في النّفس إلى بذور البغض تجاه الحقّ والقضاء الإلهيّ، ثمّ ينمو شيئًا فشيئًا ويشتدّ، حتّى يتحوّل إلى ملكة، بل ـ لا سمح الله ـ تتحوّل الصّورة الدّاخليّة للذّات صورة البغض لقضاء الحقّ، والعداء للذّات إلى المقدّس، وحين ذلك يفلت الزّمام من اليد، ويزول الاختيار عن الإنسان، ولا يستطيع أن يفعل شيئًا لتحسين الوضع وضبط الأوهام، ويتلوّن الظاهر والباطن بلون العداء للحقّ سبحانه تعالى، وينتقل من هذا العالم، وهو قطعة من البغض والعداء لمالك النّعم، فيُبْتلى بالشّقاء الأبديّ والظّلام الدّائم"25.

2- سلب الطّمأنينة
"إنّ الإنسان غير الصّابر، قلبه مضطرب، وباطنه موحش، ونفسه قلقة ومهزوزة. وهذا بنفسه بليّة فوق جميع البلايا، ومصيبة من أعظم المصائب التي تحلّ بالإنسان، وتسلب منه الرّاحة والقرار"26.

ما هي الأفكار التي تعيننا على اقتلاع الجزع؟
عندما يشكو الإنسان، ولا يجد صدىً لشكواه أو جوابًا، فسوف يرى مصيبته أكبر. الشّكاية هي في جوهرها من أهمّ آثار الجزع، ومن علاماته. الشّكاية قد تحمل معها تهمة لله سبحانه وتعالى بالظّلم! فلماذا ورد في الحديث (في وسائل الشّيعة) أنّ "مَنْ شَكَا إِلَى‏ مُؤْمِنٍ‏، فَقَدْ شَكَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ شَكَا إِلَى مُخَالِفٍ، فَقَدْ شَكَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ"27؟ لأنّ المؤمن سوف يجيب هذه الشّكاية ويوضّحها، وهو يدافع عن ساحة العزّة الإلهيّة لربّ العالمين. فالذي يشكو، يشكو الله عزّ وجلّ بطريقة غير مباشرة، لأنّ كلّ ما يحدث في العالم يرجع إلى الله، ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ28. لماذا يشكو الإنسان أمراً نزل به؟ لأنّه يراه خطأً، الإنسان لا يشكو شيئًا جميلًا أو مفيدًا... فالشّكاية بالنّسبة له هي تساؤل متألّم "لماذا يحصل هذا بي؟". فهي تخفي اعتراضًا على حكمة الباري وتدبيره ورأفته ورحمته بعبده، ومن المفترض أنّ المؤمن الحقيقيّ يدافع عن الله، بينما الكافر أو غير المؤمن يثبّت له هذه الشّكاية ومضمونها.

فمصيبة الجزع الكبرى هي أنّ صاحبها يتوقّف ويجمد، بالإضافة إلى أنّه سوف ينشر رسالة سلبيّة في المجتمع حول تدبير الله سبحانه وتعالى، لأنّه سوف يشير إلى الربّ المتعال بالظّلم. إنّ الجزوع غالبًا ما ينشر رسالة سلبيّة تجاه ربّ العالمين، بينما الصّبور إنسان ينشر رسالة إيجابيّة متفائلة، ويعزّز هذه الحالة الإيجابيّة تجاه ربّ العالمين.

إذاً، فالعلاج يكمن في تصحيح نظرة الإنسان للحياة والوجود والمصير، وتصحيح فهمه للشرّ. وبمقدار ما يتعمّق الإنسان في هذا المجال يصبح صافيًا، ويهيّئ مقدّمات التّحوّل النّوعيّ، وعليه أن يعمل على تقوية نفسه من خلال العبادة، ولا شكّ بأنّ الجهاد في سبيل الله وتحمّل المسؤوليات الاجتماعيّة يساعدان الإنسان كثيراً في هذا المجال. ومن الأمور المفيدة التي تعين على التخلّص من الجزع:

1- التفكّر في عاقبة الجزع وآثاره
ولمّا عرفنا أسباب الجزع وتعرّفنا على بعض آثاره، فإنّ ذلك كافٍ لمن أراد أن يزكّي نفسه ويصلحها. وما أجمل ما قاله الإمام الخميني قدس سره: "وأعوذ بالله من سوء العاقبة والإيمان المستعار المستودع، فيكون كلام المعصوم عليه السلام صحيحًا، حيث يقول: "عندما يذهب الصّبر يذهب الإيمان". فيا أيّها العزيز، إنّ الموضوع خطيرٌ، والطّريق محفوفٌ بالمخاطر، فابذل من كلّ وجودك الجهد، واجعل الصّبر والثّبات من طبيعتك أمام حوادث الأيّام، وانهض أمام النّكبات والرّزايا، ولقّن النّفس بأنّ الجزع والفزع، مضافًا إلى أنّهما عيبان فادحان، لا جدوى من ورائهما للقضاء على المصائب والبليّات، ولا فائدة من الشّكوى على القضاء الإلهيّ وعلى إرادة الحقّ عزّ وجل أمام المخلوق الضّعيف الذي لا حول له ولا قوّة، كما أشير إلى ذلك في الحديث الشّريف المنقول في الكافي: مُحَمَّد بْنُ يَعْقُوبَ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَمَاعَةَ بْنَ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عليه السلام قالَ: قَالَ لِي: "مَا حَبَسَكَ عَنِ الحَجِّ؟ قَالَ: قُلْتُ: جْعِلْتُ فِدَاكَ! وَقَعَ عَلَيَّ دَيْنٌ كَثِيرٌ وَذَهَبَ مَالِي، وَدَيْنِي الَّذي قَدّ لَزِمَنِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ مَالِي، فَلَوْلاَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا أَخْرَجَنِي مَا قَدَرْتُ أَنْ أَخْرُجَ، فَقَالَ لِي: إِنْ تَصْبِرْ تُغْتَبَطْ، وألاّ تَصْبِرْ يُنْفِذِ الله مَقَادِيرَهُ، رَاضِيًا كُنْتَ أَمْ كَارِهًا"29. فاعلم بأنّ الجزع والفزع لا يجديان، بل لهما أضرارٌ مخيفةٌ ومهالك تنسف الإيمان. وأمّا الصّبر والجلادة فلهما الثّواب الجزيل والأجر الجميل والصّورة البهيّة البرزخيّة الشّريفة، كما ورد في ذيلَ الحديث الشّريف الذي نحن بصدد شرحه، حيث يقول: "وَكَذلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً، فَاصْبِرُوا وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا"30.

2- التفكّر في عاقبة الصّبر وثماره
فعاقبة الصّبر إلى الخير في هذه الدّنيا، كما يستفاد من التّمثيل بالنّبيّ يوسف عليه السلام في الحديث المذكور ، يبعث على الأجر والثّواب في يوم الآخرة.

وفي الحديث الشّريف، المنقول في الشيخ الكليني، الكافي، بسنده إلى أبي حمزة الثّماليّ رحمه الله قال: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِبَلاءٍ، فَصَبَرَ عَلَيْهِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَلْفِ شَهيدٍ"31. ووردت أحاديث كثيرة في هذا المضمار... وأمّا أنّ للصّبر صورة بهيّة برزخيّة، فمضافًا إلى أنّها تتطابق مع بعض الأدلّة، نجد الأحاديث الشّريفة أيضًا تتحدّث عنها، كما في الكافي الشّريف، عن الإمام الصّادق عليه السلام، قال: "إِذَا دَخَلَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ، كَانَتِ الصَّلاَةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ، والبِرُّ مُطلٌّ عَلَيْهِ، وَيَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيةً، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ المَلَكَانَ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ، قَالَ الصَّبْرُ لِلصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالبِرِّ: دُونَكُمْ32 صَاحِبَكُمْ، فَإِنْ عَجَزْتُمْ مِنْهُ، فَأَنَا دُونَهُ"33.

* دراسات أخلاقية - الأخلاق المذمومة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة المعارج، الآيتان 19 و 20.
2- سورة الكهف، الآية 68.
3- سورة البقرة، الآية 155.
4- مستدرك الوسائل، ج2، ص427، باب استحباب الصّبر على البلاء.
5- نهج البلاغة، ص 436، خ53، من كتابٍ له لمالك الأشتر.
6- سورة الروم، الآية 41.
7- مستدرك الوسائل، ج2، ص422، باب استحباب الصبر على البلاء.
8- وسائل الشيعة، ج14، ص506، باب استحباب البكاء لقتل الحسين.
9- وسائل الشيعة، ج14، ص507، باب استحباب البكاء لقتل الحسين.
10- نهج البلاغة، ص527.
11- وسائل الشيعة، ج2، ص276، باب جواز إظهار التأثر قبل المصيبة.
12- الأربعون حديثًا، ص 297.
13- ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ سورة النساء، الآية 28.
14- معراج السالكين، ص 374.
15- معراج السالكين، ص373.
16- مستدرك الوسائل، ج2، ص427، باب استحباب الصّبر على البلاء.
17- معراج السالكين، ص 374.
18- سورة البقرة، الآية 155.
19- بحار الأنوار، ج67، ص78، ترك الشّهوات والأهواء.
20- معراج السالكين، ص364.
21- الأربعون حديثًا، ص 294.
22- (م.ن), ص 297 - 298.
23- الأربعون حديثًا، ص 298.
24- جنود العقل والجهل، ص 331.
25- الأربعون حديثًا، ص 298.
26- (م.ن)، ص 297.
27- وسائل الشيعة، ج2، ص 412، باب جواز الشّكوى إلى المؤمن دون غيره.
28- سورة النّساء، الآية 78.
29- الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الصّبر، ح1.
30- الأربعون حديثًا، ص 298 - 299.
31- الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح17.
32- دونكم: الزموا.
33- الأربعون حديثًا، ص 299.

2017-07-24