يتم التحميل...

أسرار الغيب قسمان

بحوث من سورة الجن

قسم خاص باللّه عزّوجلّ لا يعلمه إلاّ هو كقيام الساعة، وغيرها ممّا يشابه ذلك، والقسم الآخر علّمه الأنبياء والأولياء، كما يقول علي عليه السلام في نهج البلاغة في ذيل تلك الخطبة المشار إليها: "وإنّما علم الغيب علم الساعة، وما عدده اللّه سبحانه بقوله:

عدد الزوار: 30

قسم خاص باللّه عزّوجلّ لا يعلمه إلاّ هو كقيام الساعة، وغيرها ممّا يشابه ذلك، والقسم الآخر علّمه الأنبياء والأولياء، كما يقول علي عليه السلام في نهج البلاغة في ذيل تلك الخطبة المشار إليها: "وإنّما علم الغيب علم الساعة، وما عدده اللّه سبحانه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ1.

ثمّ أضاف الإمام عليه السلام في شرح هذا المعنى.

يمكن لبعض الناس أن يعلموا بزمان وضع الحمل أو نزول المطر ومثل ذلك علماً إجمالياً، وأمّا العلم التفصيلي والتعرف على هذه الاُمور فهو خاص بذات اللّه تعالى المقدسة وإنّ علمنا بشأن يوم القيامة هو علم إجمالي ونجهل جزئيات وخصوصيات يوم القيامة.

وإذا كان النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأئمّة المعصومون عليهم السلام قد أخبروا البعض في أحاديثهم عمّن يولد أو عمن ينقضي عمره، فذلك يتعلق بالعلم الإجمالي.

الطريق الآخر للجمع بين القسمين

من الآيات والرّوايات هو ثبوت أسرار الغيب في مكانين: في اللوح المحفوظ (الخزانة الخاصّة لعلم اللّه وهو غير قابل للتغيير ولا يمكن لأحد أن يعلم عنه شيئاً).

ولوح المحو والإثبات الذي هو علم المقتضيات وليس العلّة التامة، ولهذا فهو قابل للتغيير، وما لا يدركه الآخرون يرتبط بهذا القسم.

لذا نقرأ في حديث عن الإمام الصّادق عليه السلام: "إنّ للّه علماً لا يعلمه إلاّ هو، وعلماً أعلمه ملائكته ورسله، فما أعلمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه"2.

ونقل عن علي بن الحسين عليه السلام أيضاً أنّه قال: "لولا آية في كتاب اللّه لحدثتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة" فقلت له: أيّة آية؟ فقال: "قول اللّه: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ3.

وطبقاً لهذا الجمع يكون تقسيم العلوم على أساس حتميته أو عدمه، وفي الجمع السابق يكون على أساس مقدار المعلومات.

والطريق الآخر هو أنّ اللّه تعالى يعلم بكل أسرار الغيب

وأمّا الأنبياء والأولياء فإنّهم لا يعلمونها كلّها، ولكنّهم إذا ما شاءوا ذلك أعلمهم اللّه تعالى بها، وبالطبع هذه الإرادة لا تتمّ إلاّ بإذن اللّه تعالى.

ومحصلة ذلك أنّ الآيات والرّوايات التي تقول إنّهم لا يعلمون بالغيب هي إشارة إلى عدم المعرفة الفعلية، والتي تقول إنّهم يعلمون تشير إلى إمكان معرفتهم لها.

وهذا في الحقيقة كمن يسلم رسالة بيد شخص ما ليوصلها إلى آخر، ويمكن القول هنا: إنّ الشخص الموصل لها لا يعلم بمحتوى الرسالة، ولكن يمكنه فتحها والتعرف على ما فيها إذا ما حصل على الموافقة على قراءتها، ففي هذه الصورة يمكن القول على أنّه عالم بمحتوى الرسالة، وربّما لا يُسمح له ذلك.

والدليل على هذا الجمع هو ما نقرأه في الرّوايات المنقولة في كتاب الكافي للكليني رحمه الله في باب (أنّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا اُعلموا) ومنها في حديث ورد عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: "إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه للّه ذلك"4.

وهذا الوجه من الجمع يمكن أن يحلّ الكثير من المشاكل المتعلقة بعلم النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، منها أنّهم كانوا يتناولون مثلاً الغذاء المسموم في حين أن تناول ما يؤدي بالإنسان إلى الهلاك غير جائز، فكيف يكون ذلك؟ فلهذا يجب القول: إنّ في مثل هذه الموارد ما كان يسمح لهم معرفة أسرار الغيب.

وهكذا تقتضي المصلحة أحياناً في ألاّ يتعرّف النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام على أمر من الأُمور، أو يعرض إلى اختبار ليتكامل بتجاوزه مرحلة الإختبار، كما جاء في قضّة ليلة المبيت عندما بات الإمام علي عليه السلام في فراش النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يعلم هل أنّ الإمام عليه السلام سوف ينجو من المشركين عندما يهجمون على أم يستشهد، فالمصلحة هنا تقتضي ألاّ يعلم الإمام عاقبة هذا الأمر ليتحقق الإختبار الإلهي، وإذا كان الإمام بنجاته عند هجوم القوم عليه لم يكن له حينئذ أيّ ، ولم يكن ما ذكر في الآيات الكريمة والرّوايات في أهمية هذا الإيثار محل من الاعراب.

نعم، إنّ مسألة العلم الإرادي هي جواب لكلّ هذه الإشكالات.

هناك طريق آخر أيضاً لجمع الرّوايات المختلفة في علم الغيب (وإن كان هذا الطريق صادقاً في بعض هذه الرّوايات) وذلك هو أنّ المخاطبين في هذه الرّوايات هم على مستويات ختلفة، فمن كان له الإستعداد الكامل والتهيؤ لقبول مسألة علم الغيب للأئمّة عليهم السلام كانت تستوفي لهم المطاليب بتمامها، وأمّا المخالفون والضعفاء فقد كان الحديث معهم على قدر قولهم.

فنقرأ مثلاً في حديث أنّ أبا بصير وعدّة من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام كانوا ذات يوم في مجلس فدخل عليهم الإمام عليه السلام غضبان، وعندما جلس قال: "ياعجباً لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلاّ اللّه عزّوجلّ لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت منّي فما علمت في أي بيوت الدار هي"5.

يقول الراوي: فلمّا قام الإمام ودخل الدّار قمنا خلفه، وقلنا له: فدتك نفوسنا قلت هذا عن جاريتك، ونحن نعلم أنّ لكم علوماً كثيرة، ولا نسمّي ذلك بعلم الغيب؟ عندئذ قال الإمام: "إنّ ما أردته كان العلم بأسرار الغيب".

يتّضح من ذلك أنّ الجالسين كانوا لا يملكون الاستعداد والتهيؤ لإدراك مثل هذه المعاني ويجهلون مقام الإمام عليه السلام.

ويجب الإلتفات إلى أنّ هذه الطرق الخمسة لا تتنافى مع بعضها، ويمكن أن تكون كلّها صادقة.

الطريق الآخر لإثبات علم الغيب للأئمّة عليهم السلام

يوجد هنا طريقان لإثبات حقيقة أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام المعصومين يعلمون الغيب بصورة إجمالية:
الأوّل: هو أنّنا نعلم أنّ مهمتهم لم تجدّد بمكان وزمان خاص، بل أنّ رسالة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وإمامة الأئمّة عليهم السلام هي عالمية وخالدة، فكيف يمكن لمن يملك هذه المهمّة ألاّ يعلم شيئاً سوى ما يحيط به وبزمانه؟ هل يمكن لمن يتسلم مهمّة الإمرة على إمارة، والمحافظة على قسم عظيم من بلاد ما وهو لا يعلم منها شيئاً، وفي نفس الوقت يطلب منه أن ينفذ المهمّة على أحسن وجه؟!

وبعبارة أُخرى، أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام عليه أن يبيّن الأحكام الإلهية ويطبقها في فترة حياته بحيث يلبّي احتياجات البشرية في كلّ زمان ومكان، وهذا لا يمكن إلاّ بمعرفته على الأقل لقسم من أسرار الغيب.

ثمّ هناك ثلاث آيات في القرآن المجيد إذا وضعت إلى جانب بعضها البعض فسرعان ما يتّضح لنا ما يتعلق بعلم الغيب النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام فالأوّل ما يذكره القرآن حول من أحضر عرش ملكة سبأ في طرفة عين (وهو آصف بن برخيا) فيقو تعالى في كتابه: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي6، ونقرأ في آية أُخرى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب7.

ومن جهة أُخرى نقل في أحاديث مختلفة في كتب الخاصّة والعامّة أنّ أبا سعيد الخدري قال سألت النّبي صلى الله عليه وآله وسلم عن معنى الآية: ﴿الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ فقال: "هو وصي أخي سليمان بن داود" قلت ومن المراد في : (ومن عنده علم الكتاب)؟ فقال: "ذاك أخي علي بن أبي طالب"8.

فالملاحظ فيما يقوله إنّ (علم من الكتاب) الذي جاء فيما يخص "آصف" هو علم جزئي، وأمّا حينما يقول في (علم الكتاب) الذي ورد فيما يخص علياً عليه السلام هو علم كلي، وهذا ما يوضح الإختلاف بين المقام العلمي لآصف وبين المقام العلمي لعلي عليه السلام.

ومن جهة ثالثة:
نقرأ في الآية (89) من سورة النحل: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء) فمن الواضح أنّ من يعلم بأسرار مثل هذا الكتاب، لابدّ أن يكون مطّلعاً على أسرار الغيب، وهذا دليل واضح على إمكان الإطلاع والمعرفة على أسرار الغيب بأمر من اللّه لإنسان هو من أولياء اللّه.

وكانت لنا بحوث ح علم الغيب في ذيل الآية (50) و(59) من سورة الأنعام والآية (188) من سورة الأعراف.


1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 128.
2 ـ بحار الأنوار، ج26، ص160، الحديث 5، هناك روايات متعددة في هذا الإطار قد نقلت من هذا المصدر.
3 ـ تفسير نور الثقلين، ج2، ص512، الحديث 16.
4 ـ كتاب الكافي باب (أنّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا أُعلموا) الحديث3، ونقلت روايات عديدة في هذا الباب بنفس المضمون.
5 ـ اُصول الكافي، ج1، باب نادر فيه ذكر الغيب الحديث 3.
6 ـ النّمل، 40.
7 ـ الرعد، 43.
8 ـ راجع الجزء الثالث من (إحقاق الحقّ) ص280 ـ 281، ونور الثقلين، ج2، ص523.

2016-06-13