يتم التحميل...

الآثار الأخروية للذنوب

مآب المذنبين

إنّ الدُّنيا دار عمل ولا حساب فيها، والآخرة دار حساب ولا عمل فيها، إذ يُجزى كلّ إنسان حسب عمله، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ. فالله سبحانه وتعالى قد أمر عباده بطاعته ونهاهم عن معصيته، وأرسل إليهم الأنبياء والرسل لهدايتهم إلى طريق الحقّ

عدد الزوار: 75

العمل والجزاء:

إنّ الدُّنيا دار عمل ولا حساب فيها، والآخرة دار حساب ولا عمل فيها، إذ يُجزى كلّ إنسان حسب عمله، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ. فالله سبحانه وتعالى قد أمر عباده بطاعته ونهاهم عن معصيته، وأرسل إليهم الأنبياء والرسل لهدايتهم إلى طريق الحقّ، وإبعادهم عن طريق الغيّ والضلال. فمن عمل بإرشادات الأنبياء والرسل فقد وعده الله بالجنَّة خالداً فيها، ومن خالف إرشاداتهم فقد توعَّده الله بالنّار. فالله تعالى يثيب الإنسان أو يعاقبه وفقاً لعمله، فإن كان العمل موافقاً لإرادة الله وطاعته ورضاه نُعِّم صاحبه بأنواع النِّعم والكرامات الإلهية، وإن كان موافقاً لنهي الله وسخطه عُذِّب الإنسان بأنواع العذاب، وذلك حسب حاله ومآله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فيها وَلَهُ عَذابٌ مُهينٌ1.

في الحقيقة هناك علاقةٌ مباشرةٌ بين عمل الإنسان في الدُّنيا وحاله في الآخرة، فلا انفكاكَ بين العمل وجزائه، بل الجزاءُ هو باطنُ العمل، والآخرةُ هي ظرف ظهور الجزاء لا وجوده. فكلُّ عملٍ سوف يتجسَّمُ في الآخرة، فيراها الإنسان بصورةٍ مجسَّدةٍ تحاكي طبيعة عمله الدُّنيوي، فتكون سبباً لسعادته أو شقائه. وبناءً عليه فإنّ الآيات التي تحدَّثت عن رؤية الأعمال تُحمَل على حقيقتها، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا2، أي رؤية نفس العمل.

وكما أشرنا سابقاً، للذّنوب آثارٌ متعدِّدة تظهر في عوالمَ مختلفة، آخرها عالم يوم القيامة، وهو أشدّها وأصعبها؛ فإنّ هوله عظيم، بل هو أعظم من كل هول، ونحاول هنا أن نذكر أهمّ هذه الآثار وأبرزها:


استحقاق دخول النّار 3:

قال الله تعالى: ﴿بَلى‏ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّار هُمْ فيها خالِدُونَ4. فمن الآثار المعروفة للذُّنوب والمعاصي أنّ مرتكبها إذا لم يتب فهو مستحقٌّ لدخول النّار، وقوله تعالى -في آية أخرى- يؤكِّد هذه الحقيقة: ﴿وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ5.

إنّ من الآثار العامّة للمعصية يوم القيامة هو استحقاق مرتكبها دخول النّار، وهذا الاستحقاق له ثلاثُ صورٍ:

الأولى: أن لا يدخل إلى النّار أصلاً؛ وذلك في حالِ أدركته الرَّحمة الإلهيَّة وشملته شفاعة النَّبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين)، هذا إن كان مستحقّاً لها ضمن الشُّروط التي ذُكرت في كتب العقائد؛ لأنَّ الاستحقاق لا يلزم منه فعليَّةُ دخول النّار.

الثَّانية: أن يدخل النّار بسبب بعض أعماله التي قام بها في عالم الدُّنيا، لكن لا يُخلَّد فيها؛ لأنَّ استحقاق الدُّخول إلى النّار يُتصوَّر بسببين، هما: الكفر بالله تعالى، والتمرُّد على الله ومعصيته، والاستحقاق هو غير الخلود في النّار الذي يكون بخصوص الكفر أو الشرك.

يقول الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) في اعتقادات الإمامية: "اعتقادنا في النّار أنّها دار الهوان، ودار الانتقام من أهل الكفر والعصيان، ولا يُخلَّد فيها إلا أهل الكفر والشّرك، فأمّا المذنبون من أهل التَّوحيد فيخرجون منها بالرَّحمة التي تدركهم والشَّفاعة التي تنالهم"6.

يقول الشَّيخ المفيد في كتابه تصحيح اعتقادات الإمامية: "وأمّا النّار فهي دار مَن جَهِلَ اللهَ، وقد يدخلها بعضُ من عرفه، غير أنَّه لا يُخلَّد فيها، بل يخرج منها إلى النَّعيم المقيم، وليس يخلّد فيها إلا الكافرون... وكلُّ آيةٍ تتضمَّن الخلود في النّار فإنَّما هي في الكفّار دون أهل المعرفة بالله، بدلائل العقول، والكتاب المسطور، والخبر الظَّاهر المشهور"7.

والرِّوايات التي تؤكّد عدم خلود المؤمن في النّار كثيرة، منها:

- ما روي عن الإمام الكاظم عليه السلام: "لا يُخلّد الله في النّار إلا أهل الكفر والجحود، وأهل الضلال والشرك"8، فالمؤمن الفاسق خارجٌ عن كلِّ الأقسام التي ذكرها الإمام عليه السلام في هذه الرِّواية.

- ما روي عن الإمام الرِّضا عليه السلام: "إنَّ الله لا يُدخل النّار مؤمناً وقد وعده الجنَّة، ولا يُخرج من النّار كافراً وقد أوعده النّار والخلود فيها"9.

رغم كلِّ ما تقدَّم من أنّ المؤمنَ لا يُخلَّد في النّار، ولكن هذا لا يعني عدم فعليّة دخوله إلى النّار، فقد ورد في الرِّوايات أنَّ بعضَ الذّنوب توجبُ تطويلَ أمدِ العذاب، ويعاقب عليها بألوانٍ متعدِّدة، أو إنَّ الشَّفاعة قد لا تصلُ إليه إلا بعد مئات السِّنين، روي عن النَّبي صلى الله عليه واله: "إنّ العبد ليُحبس على ذنب من ذنوبه مئة عام، وإنّه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن"10، والحديث فيه دلالةٌ على أنّ الذَّنبَ يمنعُ من دخول الجنَّة مدّةً من الزَّمن، ولا دلالة فيه على أنّه في تلك المدة يكون في النّار أو في شدائد القيامة.

وروي عن الإمام علي عليه السلام أنَّه قال: "لا تتَّكلوا بشفاعتنا؛ فإنَّ شفاعتنا لا تلحق بأحدكم إلا بعد ثلاثمئة سنة"11، والحديث يوضح أنّ الشفاعة قد تأتي إذا مات المؤمن على التوحيد والنبوة والإمامة، ولكن بعد ثلاثمئة سنة، ومقدار السنة عند الله يختلف عن مقدارها عندنا.


الثالثة: الخلود في النّار:


هناك آيات كثيرة تشير إلى خلود الكفّار والمنافقين في النّار، كقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالدِّين فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ12، فالكافر والمنافق يخلّدان في النّار دون المؤمن كما تقدّم.

وقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام: عن المؤمن يقتل متعمداً، أله توبة، فقال: "إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له، وإن كان قتله لغضبٍ أو لسبب شيءٍ من أمر الدُّنيا، فإنّ توبته أن يقاد منه، وإن لم يكن علم به أحد انطلق إلى أولياء المقتول فأقرّ عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية، وأعتق نسمة، وصام شهرين متتابعين، وأطعم ستين مسكيناً توبة إلى الله عز وجل"13.


الافتضاح يوم القيامة:

قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ14، الأشهاد: جمع شاهد، وهم الذين يشهدون بالحقّ للمؤمنين على المبطلين والكافرين يوم القيامة، وفي ذلك سرور للمُحقّ وفضيحة للمبطل، في ذلك اليوم العظيم.

تشير الآية إلى معنىً دقيق، وهو أنّ يوم الأشهاد هو اليوم الذي يُبسَط فيه الأمر في محضر الله تعالى، وتنكشف السرائر والأسرار لكافّة الخلائق، وهو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الانتصار فيه أروع ما يكون، إنّه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء ويزيد في كرامتهم، وإنّه يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين، ويوم لا يحول شيء دون افتضاح الظالمين أمام الأشهاد 15. قيل: الأشهاد أربعة: الملائكة، الأنبياء، أمّة محمد صلى الله عليه واله، الجوارح 16.

وما يهم في الأمر أنّ العبرة من قيام الأشهاد واعتبار قولهم هو بيان شدَّة إظهار الفضيحة.

لذا ينبغي على الإنسان المؤمن العاقل أن يخافَ أهوالَ ذلك اليومِ العظيمِ، وأنْ يخافَ الفضيحةَ أمامَ الله ورُسله والأمم والنَّاس أجمعين.

روي عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال: "وأمّا علامة الموقن فستّة: أيقن بالله حقاً فآمن به، وأيقن بأنّ الموت حقٌ فحذره، وأيقن بأنّ البعث حقٌ فخاف الفضيحة، وأيقن بأنّ الجنّة حقٌ فاشتاق إليها، وأيقن بأنّ النّار حقٌ فظهر سعيه للنجاة منها، وأيقن بأنّ الحساب حقٌ فحاسب نفسه" 17.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في المناجاة الشَّعبانية: "إلهي قد سترت علي ذنوباً في الدُّنيا وأنا أحوج إلى سترها عليّ منك في الأخرى، إلهي قد أحسنت إليّ إذ لم تظهرها لأحد من عبادك الصالحين، فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد..."18.

فكم من الذُّنوب التي يرتكبها العبدُ في الخلوات، ولو شاء الله تعالى لجعل علامةً -كالسَّواد مثلاً- لكلِّ معصية، وتختلف شدّة هذا السواد بحسب شدّة المعصية، ولكنّ الله ستّار على عباده، قد أظهر الجميل وستر القبيح... ولهذا يطلب الإمام عليه السلام أن يديم الله هذا السّتر حتَّى في الآخرة، حين تكون ساعة الفضيحة على رؤوس الأشهاد.


الذلّ والهوان يوم القيامة:

من المشاهد التي تظهر يوم القيامة مشهد الذلّ والهوان اللذان يصيبان الكفرة والعصاة.

والنَّاس في ذلك الموقف صنفان: أشقياء وسعداء، فالأشقياء في غاية الذلّ والهوان، وهذا ما يمكن فهمه من خلال الأوصاف التي يصفها الله تعالى لهؤلاء العصاة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُون19، أي وجوهٌ تظهر عليها علائم الخزي والهوان، ثم يصفها بأوصافٍ أخرى كقوله: ﴿هَلْ أَتاكَ حَديثُ الْغاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً20، أي أنَّ هؤلاء الكُفَّار كانوا يعملون في الدُّنيا بجدٍّ ولكن لغير الله تعالى، فمع كلِّ تعبهم وعنائهم لم يستفيدوا شيئاً من أعمالهم، فتكونُ آثارُ الخيبةِ باديةً على وجوههم يوم القيامة، وزيادةً في بيان حالهم من الذُلّ والهوان يقول الله تعالى: إنّ هذه الوجوه: ﴿تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً أي تقاسي حرّ النّار وتُعذَّب بها؛ لأنّ أعمالهم في الدُّنيا كانت خاسرةً، غلبها الشرّ وفارقها الخير.

وهناك آيات أخرى أيضاً تدلّ على هذا المعنى، قال تعالى: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ21، أي سيلحق المجرمين ذلٌ وهوانٌ دائمان، ويدركهم العذاب المؤلم الشَّديد جزاءً لما كانوا ينكرون، وعقوبةً لتكبّرهم عن اتّباع الرُّسل والانقياد لما جاؤوا به، فبسبب تكبُّرهم في الدُّنيا سيصابون بالذلِّ الشَّديد يوم القيامة، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ22، أي صاغرين أذلاء.


الحسرة والندامة:

إنّ أحد أوصاف يوم القيامة هو "يوم الحسرة والندامة"، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ23، ويستفاد من الآية:

أولاً: إنّه في يوم الحسرة والندامة يندم الكافر على كفره، والظَّالم على ظلمه، والمقصِّر في طاعة ربِّه على تقصيره، لكن المشكلة أنه يوم لا ينفع فيه الندم.
ثانياً: ينبغي أن لا يكون المؤمن في غفلةٍ، بل على استعدادٍ دائمٍ للقاء الله تعالى.

فإنّ من عِظَم الحسرة التي تصيب أهل النّار أنّ الواحد منهم يتمنَّى أن يفدي نفسه من عذاب الله بماله وولده والنَّاس أجمعين، بل بملك الدُّنيا بأسرها، مع أنّه طُلب منه ما هو أهون من ذلك فلم يفعل، قال تعالى: ﴿َوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيه24.

وقد وصفت الرِّوايات الشَّريفة هذه الحسرةَ بأشكالٍ متعدِّدة، منها "أشدُّ النَّاس حسرةً يوم القيامة"، عن الإمام الباقر عليه السلام: أشدّ النَّاس حسرة يوم القيامة الذين وصفوا العدل ثم خالفوه، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿َتَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ25"26.

وقد فسّر الإمام الكاظم عليه السلام ﴿جَنْبِ اللَّهِ بقوله: "جَنْبِ اللَّهِ: أمير المؤمنين عليه السلام، وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم"27.

وأَوّلَ الشيخ الصدوق معنى الجَنْب في عليّ عليه السلام بمعنى الطَّاعة، فقال: "الجَنْب: الطاعة في لغة العرب، يُقال: هذا صغير في جَنْب الله، أي في طاعة الله عزَّ وجل؛ فمعنى قول أمير المؤمنين عليه السلام: "أنا جَنْب الله" أي أنا الذي ولايتي طاعةُ الله"28.

إنّ من أهمّ الأعمال التي لها آثار في العوالم الدنيويَّة والبرزخيَّة والأخرويَّة كلّها -وبالأخص يوم القيامة- هي ولاية أهل البيت عليهم السلام، فمن أطاعهم ووصلهم وصله الله يوم القيامة، ومن لم يوالِهم ونكث العهد كان من أشدِّ النَّادمين يوم القيامة؛ لأنَّ تركَ ولايتِهم وحبِّهم من أعظم الكبائر.

وروي عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى "كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ..ِ."29، قال: "هو الرجل يكسب المال ولا يعمل فيه خيراً، فيرثه من يعمل فيه عملاً صالحاً... فيرى الأول ما كسبه حسرةً في ميزان غيره" 30.

فتبيّن من خلال الروايات المتقدّمة أنّ هناك ذنوباً توجب الحسرة والندامة يوم القيامة، ومنها: الكِبْر والرياء، اللذان هما من أخطر الأمراض الأخلاقية التي تصيب قلوب النَّاس.


تجسّم الأعمال بصورٍ قبيحة:


من الآثار الأخرويّة للذنوب تجسّد الأعمال بصورةٍ تتناسبُ مع طبيعة الذَّنب.

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النّار...31.

وهذه الآية تبيّن تجسيم الأعمال في الآخرة، وتدلّ على أنَّ الأموالَ المكتسبة عبر هذا الطَّريق المحرَّم، هي في الواقع نيرانٌ تدخلُ في بطونهم، وتتجسَّمُ بشكلٍ واقعيٍّ في الآخرة.

قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ32.

تشيرُ هذه الآية إلى حضور الأعمال الصَّالحة والسيِّئة يوم القيامة، فيرى كلّ امرئٍ ما عملَ من خيرٍ وما عملَ من شرٍّ حاضراً أمامه، فالذين يشاهدون أعمالهم الصَّالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرُّعب، ويتمنُّون لو أنَّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها، ولم تقل الآية: يتمنون فناء أعمالهم وسيئاتهم؛ لأنّهم علموا أنَّ كلَّ شيءٍ في ذاك العالم لا يفنى، فلذلك تمنّوا الابتعاد عنها.

فالإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما كانت قليلة، وهذا ينسجم مع كلمة "تجد" من الوجود من العدم33.

وخلاصة القول: إنّ تجسّد الأعمال يعتبر من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. والموجود في ذلك العالم هو انعكاسٌ كاملٌ لهذا العالم، فأعمالُنا وأفكارُنا وأساليبنا الاجتماعيةُ وصفاتنا الأخلاقيَّة المختلفة سوف تتجسَّم وتتجسَّد أمامنا في ذلك العالم، لتبقى قرينةً لنا دائماً.

* كتاب مآب المذنبين، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- النساء، 14.
2- آل عمران، 30.
3- التعبير باستحقاق النّار ينسجم مع اعتقادات الإمامية القائلة بالوعد دون الوعيد؛ فالله أوجب على نفسه الوفاء بوعده وإدخال عباده إلى الجنة، ولكن قد لا يفي بوعيده، وهو إدخال عباده إلى النّار؛ وذلك بمقتضى رحمته التي وسعت كلّ شيء.
4 - البقرة، 81.
5 - النمل، 90.
6- بحار الأنوار، ج8، ص324.
7 - راجع: بحار الأنوار، ج8، ص325 (بتصرف).
8 - بحار الأنوار، ج8، ص351.
9- بحار الأنوار، ج8، ص362، ولقد عقد الحرُّ العاملي (رض) في كتابه الفصول المهمَّة في أصول الأئمة باباً تحت عنوان: إنّ فسّاق المسلمين لا يخلدون في النّار، بل يخرجون منها ويدخلون الجنَّة، وروى في ذلك اثني عشرةَ روايةً، ثم علَّق في نهاية الباب قائلاً: والآيات والرِّوايات في ذلك كثيرةٌ جدّاً. راجع: الفصول المهمة في أصول الأئمة، ج1، ص376- 380.
10 - أصول الكافي، ج2، ص272.
11 - بحار الأنوار، ج70، ص331.
12- التوبة، 68.
13- من لا يحضره الفقيه، ج4، ص95.
14 - غافر، 51.
15 - راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 15، ص283 (بتصرف).
16- راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج22، ص442.
17- تحف العقول، ص20.
18 - إقبال الأعمال، ج3، ص297.
19 - القلم، 43.
20 - الغاشية، 1- 4.
21 - الأنعام، 124.
22- غافر، 60.
23 - مريم، 39.
24 - المعارج، 11- 14.
25- الزمر، 5.
26 - بحار الأنوار، ج2، ص30.
27 - أصول الكافي، ج1، ص145.
28 - التوحيد، ص165.
29- البقرة، 167.
30- تفسير نور الثقلين، ج1، ص152.
31- البقرة، 174.
32 - آل عمران، 30.
33 - راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل،ج2، ص463(بتصرف).

2015-09-08