يتم التحميل...

الإمام علي عليه السلام في عهد الخلفاء

الحياة السياسية للإمام علي (ع)

يقول الإمام عليّ عليه السلام: "فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته، ولا أنهم مُنَحوهُ عني من بعده،

عدد الزوار: 150

من مواقف الإمام عليه السلام في عهد أبي بكر
يقول الإمام عليّ عليه السلام: "فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته، ولا أنهم مُنَحوهُ عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس إلى أبي بكر يبايعونه، فأمسكت حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به أعظم من فوت ولايتكم..."1 .

كل الأحداث التي جرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تُنسِ الإمام علياً عليه السلام أنه الوصي على هذه الأمة وعلى تطبيق الرسالة الإسلامية.
ورغم إقصاء الإمام عن القيادة وقف عليه السلام ليدلي بآرائه الصائبة، موضحاً قواعد الدِّين الصحيحة في كل موقف، فكان عليه السلام الميزان في شؤون الحياة الإسلامية من قضاء واجتماع وإدارة في عهد أبي بكر وما تلاه من فترات حكم الخلفاء. ولم تطل أيام أبي بكر فقد ألمت به الأمراض وأشرف على الموت، وقد صمم على أن يولي عمر الخلافة من بعده، فاعترض أكثر المهاجرين والأنصار. لكن أبا بكر أصر على موقفه وأحضر عثمان وحده ليكتب عهده لعمر.

مآخذ الإمام عليه السلام على وصية أبي بكر لم يكن الإمام عليه السلام راضياً بما فعله أبو بكر للأسباب التالية:
1- إن أبا بكر لم يستشر أحداً من المسلمين في تقرير مصير الخلافة إلا عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان اللذين كانا على معرفة تامة بميول أبي بكر لاستخلاف عُمر من بعده.
2- الإصرار على إبعاد الإمام عليّ عليه السلام عن الساحة السياسية ومسألة تقرير مصير الخلافة.
3- إن أبا بكر فرض عمر فرضاً على المسلمين.
4- إنه ناقض نفسه في دعواه بالسير على منهاج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان يدعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفيَ ولم يعهد لأحدٍ في شأن الخلافة، في حين يوصي لعمر من بعده.
5- إنه هيأ المُلك لبني أمية، وذلك من خلال إثارة طمعهم في الخلافة وتشجيعهم عليها بقوله لعثمان: لولا عمر ما عدوتك2 . وعثمان يميل لبني أمية بل هو منهم.

النصيحة والمشورة للخلفاء

وقف الإمام عليّ عليه السلام بروحٍ مغمورة بالمسؤولية إزاء الخلفاء حرصاً على مصلحة الدين، مما حتم عليهم أن يرجعوا إلى رأيه ومشورته في القضايا المهمة ومنها:

1- في خلافة أبي بكر حين أراد المسلمون غزو الروم، فاستشار الإمام عليه السلام فأشار إليه بأن يفعل وأخبره بنتيجة المعركة قائلاً: "إنْ فعلت ظفرت..."3 .
2- عندما أراد عمر بن الخطاب غزو الفرس جمع قادة الجيش مع كبار الصحابة، فأشار عليه عثمان أن يكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ثم يسير عمر بجيشٍ من أهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة.

فاعترض الإمام عليه السلام ولم يُحبِّذ خروج أهل الشام لأنَّهم محاطون بالأعداء وهم الروم، وخروج أهل اليمن لأنهم محاطون بأعداء كامنين لهم في بلاد الحبشة، ولم يحبِّذ خروج أهل الحرمين إلى الحرب لأن العرب قابعون في الأطراف يستغلون غياب القوة العسكريّة فيفعلون ما يريدون.

وكان مقترح الإمام أن يستقر أهل الأمصار في أماكن سكناهم ويُكتب إلى أهل البصرة فينقسموا إلى ثلاث فرق... فقال عمر: هذا هو الرأي4 .

3- أراد عمر أن يرجم امرأةً مجنونة اتهمت بالزنا، فرد الإمام عليه السلام قضاء عمر. وذكره بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن الطفل حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يبرأ أو يعقل". حينذاك قال عمر: لولا علي لهلك عمر5 . من هنا نجد أن الموجه غير المباشر لمجريات الأمور باتجاه صيانة الأمة والرسالة والكيان الإسلامي من تزايد الانحراف واشتداده كان هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام من خلال ما ذكرناه وغير ذلك من مراجعات للخلفاء الثلاثة يقف المراجع للتاريخ على كثير منها.

محنة الشورى والمؤاخذات عليها

إذا كانت السقيفة وبيعة أبي بكر فلتةً وقى الله المسلمين شرها ـ كما قال عمر ـ؛ فإن مسألة الشورى كانت أشد وأدهى وأمر. فقد امتُحنِ المسلمون فيها امتحاناً عسيراً، وزرعت لهم الفتن، وتبين معها الهدف الرئيس المتمثل بإقصاء الإمام عليّ عليه السلام عن الحكم بسبب تركيبة أعضاء الشورى السداسية التي صرح عمر عنها 6. ويوضح الإمام واقع الحال في حديثه مع عمه العباس عندما استفسره فبادره قائلاً: "يا عم، لقد عُدِلَتْ عنا"، فقال العباس: من أعلمك بذلك؟ فقال عليه السلام: "قُرِن بي عثمان، وقال عمر: كونوا مع الأكثر، فإن رضيَ رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني"7 .

وتحقق ما تنبأ به الإمام عليه السلام وآلت الخلافة إلى عثمان بتواطؤ عبد الرحمن. وبعد أن أوضح للناس خطأهم المتكرر في الاستخلاف في مصير القيادة قال: "أيها الناس، لقد علمتم أني أحق بهذا الأمر من غيري، أما وقد انتهى الأمر إلى ما ترون، فوالله لأُسلمن ما سَلِمَتْ أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة"8 .

ونظام الشورى الذي وضعه عمر مع مخالفته لنص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان عارياً عن الصحة والصواب يحمل التناقض بين خطواته، ويُلاحظ فيه أمورٌ محل إشكال ونظر، منها:
1- أن الأعضاء المقترحين للشورى لم يحصلوا على هذا الامتياز بالأفضلية وفق ضوابط الانتخاب. وإطلاق كلمة الشورى على هذا النظام جُزاف، لأنه لم يكن إلا ترشيح فرد لجماعة وفرضهم على الأمة.
2- الاستهانة بالأنصار ودورهم، فقد طلب عمر حضورهم ولا شيء لهم بل ولا رأي، فالأمر منحصر في الستة فما معنى حضور الأنصار؟
3- أن عمر ناقض نفسه في عملية اختيار العناصر، ففي السقيفة كان يدعي ويصر على أن الخلافة في قريش، بينما نجده في هذا الموقف يتمنى حياة سالم مولى أبي حذيفة ليوليه الأمر، كما أنه استدعى أصحاب الشورى دون غيرهم من الصحابة، ثم إنه أمر صهيباً أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، لأن إمامة المصلين لا ترتبط بالخلافة ولا تستلزمها. وقد كان يناضل يوم السقيفة من أجل استخلاف أبي بكر، وكانت صلاته المزعومة دليله الأول على أهلية أبي بكر للخلافة.
4- اختيار العناصر الستة مؤامرة واضحة بحيث يصل الأمر إلى عثمان.
5- أنه أمر بقتل أعضاء الشورى في حالة عدم التوصل إلى اتفاق أو إبداء معارضة، وكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين قوله: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو راضٍ عنهم وأنهم من أهل الجنة؟ وهل تكون مخالفة رأي عمر موجبة لقتل الصحابة؟!

الإمام عليه السلام وعهد عثمان

تعايش الإمام علي عليه السلام مع أبي بكر وعمر، ولم يظهر معارضته العلنية لهما، فقد كان الانحراف في مسيرة الحكومة الإسلامية مستتراً، أما في فترة حكم عثمان فقد استشرى الفساد ودب في أجهزة الدولة بصورة علنية مكشوفة، وانتقلت العدوى إلى فئات المجتمع الإسلامي، فوقف الإمام معلناً رفضه واستنكاره على عثمان بصورةٍ علنية. ويمكن لنا أن نجمل طبيعة حكم عثمان وملامحه فيما يلي:

إن عثمان وصل إلى الحكم وقد تجاوز السبعين عاماً، وكان وَصولاً لأرحامه وَلوعاً بحبهم وإيثارهم، فقد روي عنه قوله: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم. كما أن عثمان عاش غنياً مترفاً قبل الإسلام، وظل على غناه في الإسلام، فلم يكن ليتحسَّس معاناة الفقراء وآلام المحرومين، وقلد أقرباءه أمور الحكم والسلطة، فاستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة وهو ممن أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه من أهل النار، وعبد الله بن أبي سرح على مصر، ومعاوية على الشام، وعبد الله بن عامر على البصرة، وسعيد بن العاص على الكوفة.

وكان عثمان ضعيفاً أمام مروان بن الحكم، يسمع كلامه وينفذ رغباته، ووالد مروان هو الحكم بن أبي العاص طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي غربه عن المدينة ونفاه عن جواره. وأما سياسة عثمان المالية فقد كانت امتداداً لسياسة عمر من إيجاد الطبقية وتقديم بعض الناس على بعض في العطاء، إلا أنها كانت أكثر فساداً من سياسة سابقهِ، فقد أثرى بني أمية ثراءً فاحشاً، وحين اعترض عليه خازن بيت المال قال له: إنما أنت خازن لنا، فإذا أعطيناك فخذ وإذا سكتنا عنك فاسكت9 .

وأدى تزايد الثروة لدى قطاع من المهاجرين والأنصار في أيام عثمان إلى انتشار روح البذخ والإسراف وشيوع الطبقية والانحراف الأخلاقي في المجتمع الإسلامي. وهنا وقف الإمام عليّ عليه السلام ليعلن رفضه واستنكاره واقع سياسة عثمان، ووقف معه الصحابة الأجلاء أمثال عمار وأبي ذر. ويصف الإمام عليه السلام عهد عثمان فيقول: "إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلَفِهِ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خِضْمَةَ الإبل نبْتَةَ الربيع، إلى أن انتكث عليه فتلُه، وأجهز عليه عملُه، وكبَتْ به بِطْنَتُهُ"10 .

معارضة سياسة عثمان

هذه السياسة التي سلكها عثمان في التولية والعطاء أثارت عليه وعلى عهده موجة سخط عامة من المسلمين، لما رأوه فيه من عصبية قبلية هو وولاته من بني أمية.
وكانت أول مواجهة للمسلمين معه هي تلك التي حصلت نتيجة تساهله مع جريمة القتل التي ارتكبها عبيد الله بن عمر بسفكه ثلاثة دماء لم يثبت جُرم لأصحابها، فقد قتل الهرمزان وجُفينة وبنت أبي لؤلؤة لمجرد شبهة اشتراكهم في قتل أبيه. وكان المفترض إقامة حد القصاص على أبي لؤلؤة القاتل دون غيره. وانقسم المسلمون حيال هذه الجريمة إلى فريقين:
الأول: وهم الأكثرية وفي مقدمتهم الإمام عليّ عليه السلام حيث طالبوا بإجراء القصاص على عُبيد الله بن عمر.
الثاني: وهم المقربون من الخليفة وكانوا يرون التغاضي عما ارتكبه عبيد الله مُعتذرين عن ذلك بأنه كيف يُقتل عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم؟

ومال عثمان إلى الفريق الثاني وقال: أنا وليه وقد جعلتها ديَة واحتمالها في مالي11 . وتعقدت الأمور واشتدت المعارضة من كبار الصحابة شيئاً فشيئاً.
فقد عارض سياسة عثمان في المال والإدارة عبد الله بن مسعود، وكان خازناً لبيت المال، فأمر عثمان بضربه حتى كسرت بعض أضلاعه.
وعارضه أبو ذر الغفاري فنفاه إلى الشام، ثم إلى الربذة، ولبث فيها حتى مات غريباً وحيداً سنة 32هـ.

وعارضه عمار بن ياسر، فشتمه عثمان وضربه حتى غشي عليه سائر النهار، وعارضه غير هؤلاء من الصحابة من المهاجرين والأنصار في الأحداث التي كان يُقدم عليها، والسياسة التي كان ينتهجها.
وعند استعراض مواقف الإمام عليّ عليه السلام وصحبه نستطيع أن نرسم خطوطاً عامة لحركة المعارضة ضد عثمان بما يلي:
1- المطالبة بالإصلاح الاجتماعيّ، حيث تفشت المفاسد الاجتماعية نتيجة انتشار الخمر والغناء، وكان من واجب الإمام عليه السلام وصحبه العمل على مواجهة هذه المفاسد.
2- مراقبة تصرفات الولاة ومحاسبتهم على سلوكياتهم المناقضة للشريعة الإسلامية. فقد قام محمد بن أبي حُذيفة بدورٍ هام في محاسبة والي مصر، واستطاع مالك الأشتر إزاحة الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص، وأيقظ أبو ذر أهل الشام من كبوتهم.
3- الدعوة إلى تطبيق العدل في الإنفاق بعد أن ظهرت في عهد عثمان طبقة من الأثرياء موغلة في الثراء، بينما كانت الأكثرية من عامة المسلمين تعيش في الفقر المدقع.

تقديم النُصح للخليفة، فقد التزم الإمام عليه السلام وصحبه سياسة ثابتة من النصح والتوجيه. وعلى العكس كان مروان وصحبه يصورون للخليفة أن ما يحدث كله بسبب مواقف الإمام عليّ عليه السلام.
لقد كان الإمام عليّ عليه السلام ينطلق في معارضته للسلطة من موقفٍ إسلامي أصيل، فكان يُشكِّل خطاً في المعارضة الإيجابية التي تُساهم في الأعمال الخيرة التي كان يقوم بها الخليفة، بينما كان موقفها من الأعمال المنافية هو تقديم النُصح والتخفيف من الآثار السيئة لتلك الأعمال.

الثورة على عثمان

تأزم الوضع العام في البلاد الإسلامية وتحركت قطاعات كبيرة من داخل المدينة وبقية الأمصار معترضة على سيرة عثمان وعماله طالبةً منه العدل والسوية والعمل وفق التعاليم الإسلامية، ولكن لم تنل إلا الخيبة والفشل في مساعيها. ودخلت عائشة بنت أبي بكر على خط الصراع السياسي والدعوة إلى إحداث التغيير في شكل السلطة القائمة، إذ كانت تحاول أن يصل طلحة إلى رئاسة السلطة، فحرضت الناس على خلع عثمان بل قتله أيضاً 12.

أما معاوية فإنه خطط بذكاء لمقتل عثمان بعد خذلانه عندما استنجد الأخير به ثم كان من المطالبين بدمه13 .
وتدخل الإمام عليّ عليه السلام في مسعىً لأنْ يصل إلى حل يُغني الأمة عن فتنة لا تحمد عواقبها، ولكن بطانة السوء وضعف الخليفة جعلا مساعي الإمام لا تثمر نجاحاً.

وبعد تفاقم الأمور أسرع عثمان ليستغيث بالإمام عليّ عليه السلام الذي تمكن بأسلوبه الحكيم ومكانته في قلوب الجماهير أن يُقنع الثائرين على عثمان بالهدوء والتفاهم مع الخليفة. استجاب عثمان للجماهير وكتب كتاباً يتعهد بتنفيذ الإصلاح والسير فيهم بكتاب الله وسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ضعفه أمام خبث ومكر مروان بن الحكم ومن هو على شاكلته جعله ينكث، فمثلاً كتب عثمان لأهل مصر بتولية محمد بن أبي بكر عليهم، ثم ما لبث أن كتب كتاباً آخر إلى ابن أبي سرح يأمره بقتل محمد ومن معه.

لقد أساء عثمان إلى الأمة كثيراً فلم يُبق له صديقاً حميماً إلا النفعيين من بني أمية الذين غشوا صحبته وخذلوا نصرته، فتكاثرت الفئات المسلحة تحوم من أطراف البلاد الإسلامية حول المدينة تريد رفع الظلم، وما بقيت للحكومة المركزية سلطة ولا للخلافة هيبة.

وكان لاستعمال العنف والقسوة في التعامل مع المعترضين وإهانتهم رد فعلٍ معاكس. وكان مقتل عثمان نقطة تحول في الصراعات الدائرة بين وجهات نظر المسلمين. وبلغت المأساة قمتها بعد مقتل عثمان حيث فُسِح المجال أمام النفعيين في الوصول إلى الحكم بقوة السيف بعد أن افترقت الأمة الإسلامية في توجهاتها السياسية، كل فرقة تريد الحكم لنفسها.

البيعة للإمام عليه السلام وموقفه منها

سادت الفوضى أرجاء المدينة بعد مقتل عثمان، فاتجهت الأنظار والآراء إلى الإمام عليّ عليه السلام لينقذ الأمة من محنتها وتخبطها، وطالبوه بتولي الحكم ولكنه أبى عليهم ذلك، لا لأنه لم يأنس من نفسه القوة على ولاية الحكم وتحمل تبعاته، بل لأنه كان يدرك أن المد الثوري الذي انتهى بالأمور إلى ما انتهت إليه بالنسبة إلى عثمان يقتضي عملاً ثورياً إصلاحياً يتناول دعائم المجتمع الإسلامي من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قد لا يتحمل أعباءه كثير من الناس.

لذلك امتنع عن الاستجابة الفورية لضغط الجماهير والصحابة عليه وقبول بيعتهم له بالخلافة، فقد أراد أن يرى مدى استعدادهم لتحمل أسلوب الثورة في العمل لإزالة الانحراف الذي حصل في العهود السابقة، لئلا يروا فيما بعد أنه استغفلهم، واستغل اندفاعهم الثوري؛ حين يكتشفون صعوبة ما سوف يحملهم عليه، ولهذا أجابهم الإمام عليه السلام بقوله: "دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول... واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً"14 ، لئلا يروا فيما بعد أنه استغفلهم، واستغل اندفاعهم الثوري حين يكتشفون صعوبة ما سوف يحملهم عليه الإمام عليه السلام.

وتكاثرت جموع الناس نحو الإمام عليه السلام، وفي ذلك يقول عليه السلام: "فما راعني إلا والناس كعرف الضبع ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشُق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم"15 . وما كان من الإمام عليه السلام إلا أن استجاب لإرادة الأمة.

كانت بيعة الإمام عليّ عليه السلام أول حركة انتخاب جماهيرية. ولم يحظَ أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة. وبلغ سرور الناس ببيعتهم أقصاه، فقد أطلت عليهم حكومة الحق والعدل، وتقلد الخلافة صاحبها الشرعي ناصر المستضعفين والمظلومين. ويصف عليه السلام فرحة الناس بقبوله الخلافة: "وبلغ سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير، وهَدَج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحَسَرَتْ إليها الكِعاب"16 .

الإصلاحات في عهد الإمام عليه السلام

كان على الإمام عليه السلام أن يقوم بعملية الإصلاح الشامل في أقصر وقت رغم وجود الصراعات الداخلية، وذلك في المجالات التالية:

1 و2 ـ الإصلاح الاجتماعيّ والاقتصاديّ:
بعد نشوء المجتمع الطبقي في عهود الخلفاء السابقين، كان على الإمام عليه السلام أن يقوم بهدم هذا الكيان الطبقي، وذلك عبر ما يلي:
أ ـ المساواة في العطاء بين المسلمين جميعاً: وكان شعاره في ذلك: "فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يُقسم بينكم بالسوية، لا فضل لأحد على أحد..."17 .
ب ـ العدالة في العطاء: من بيت المال، حيث كانت الأموال الطائلة عند طبقة محيطة بالخليفة، فقال عليه السلام: "ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يبطله شي‏ء، ولو وجدته قد تُزوج به النساء ومُلك به الإماء وفُرِّق في البلدان لرددته"18 .
ج ـ المساواة أمام القانون: فحكمعليه السلام بالحق والعدل، وسلك أوضح سُبل الحق مُظهراً عدل الشريعة الإلهية، وقدرة الإسلام على إقامة دولةٍ تنعم بالحرية والأمان والعدل.

3 - الإصلاح الإداري:

قامعليه السلام بإعفاء الولاة الذين كان قد عينهم عثمان بغير وجه حق من مناصبهم، ونصب ولاة كانوا جديرين بهذه الأمة، فأرسل عثمان بن حنيف بدلاً من عبد الله بن عامر إلى البصرة، وعلى الكوفة أرسل عمارة بن شهاب بدلاً عن أبي موسى الأشعري، وعلى اليمن عبيد الله بن العباس بدلاً عن يعلى بن منبه، وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بدلاً عن عبد الله بن سعد، وعلى الشام سهل بن حنيف بدلاً عن معاوية، ورفض اقتراح إبقاء معاوية على الشام حتى يستقر حكمه عليه السلام ثم تنحيته فيما بعد. وكان كل هذا لسوء سيرة الولاة السابقين وفسادهم الإداري.

4 و5 - الإصلاح الدينيّ والثقافيّ‏

اعتبر الإمام أن من أوليات مهامه صيانة الشريعة من الزيغ والانحراف بها عن مسارها الصحيح، فاهتم اهتماماً بليغاً بالقرآن الكريم وتفسيره وقرائه، ودعا إلى رواية السنة النبوية وتدوينها ومدارستها، وربى ثلة صالحة من المؤمنين.

الخلاصة

كل الأحداث التي جرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تُنسِ الإمام علياً عليه السلام أنه الوصي على هذه الأمة وعلى تطبيق الرسالة الإسلامية.
وقف الإمام عليّ عليه السلام بروحٍ مغمورة بالمسؤولية إزاء الخلفاء حرصاً على مصلحة الدين.

أدى تزايد الثروة لدى قطاع من المهاجرين والأنصار في أيام عثمان إلى انتشار روح البذخ والإسراف وشيوع الطبقية والانحراف الأخلاقي في المجتمع الإسلامي.
عارض جمع من الصحابة ومن بينهم الإمام علي عليه السلام سياسة عثمان وكانت معارضته عليه السلام إيجابية هدفها تقديم النصح والتخفيف من الآثار السيئة.

أسفر مقتل عثمان عن نتائج سيئة ظهرت آثارها في الأمة الإسلامية من بعده، وامتدت لتشكِّل خطراً جديداً يحيق بدولة الإمام عليّ عليه السلام.
كانت بيعة المسلمين للإمام عليه السلام نموذجاً للبيعة الجماهيرية الفريدة التي لم تتحقق لأي واحد من الخلفاء السابقين.

إن ربع قرن من العزلة السياسية تمخض عن انقلاب جملة من المقاييس عند عامة المسلمين تجاه الإمام عليه السلام بالإضافة إلى تجذر جملة من الانحرافات بين أبناء المجتمع الإسلامي. واستدعت ظروف الإمام إصلاحاً شاملاً في المجال الإداري والاقتصاديّ والدينيّ. واستطاع الإمام عليه السلام أن يشق طريقه باتجاه المجتمع الإسلامي الأمثل بالرغم من وجود عقبات كبيرة في طريق الإصلاح الشامل.

* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- نهج البلاغة، الكتاب: 62.
2- شرح نهج البلاغة، م.س: 1/164.
3- تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب المعروف باليعقوبي: 2/133، مؤسسة نشر فرهنك أهل البيت عليهم السلام، إيران، ودار صادر، بيروت.
4- الكامل في التاريخ، م.س: 3/8.
5- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، السيد مرتضى الفيروز آبادي: 2/309، مؤسسة الأعلمي، بيروت.
6- جعل عمر الشورى في ستة أشخاص محتجاً بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عنهم إنهم من أهل الجنة وهم: الإمام علي عليه السلام وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله.
7- تاريخ الطبري، م.س: 5/226، ويقول عليه السلام، في الخطبة الشقشقية: "فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر لكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره.." نهج البلاغة: 1/31.
8- نهج البلاغة، الخطبة: 74.
9- تاريخ اليعقوبي، م.س: 2/153.
10- نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية: 1/25.
11- الكامل في التاريخ، م.س: 3/75.
12- راجع: تاريخ اليعقوبي، م.س: 3/206.
13- شرح نهج البلاغة، م.س: 16/154.
14- نهج البلاغة، الخطبة: 92.
15- م.ن، الخطبة: 3 (المعروفة بالشقشقية).
16- م. ن: 2/223.
17- بحار الأنوار، م.س: 32/17.
18- نهج البلاغة، الخطبة: 15.
 

2013-04-01